الجمعة، 29 مارس 2024

صناعة المجرمين

 


قبل سنة تقريباً وبينما كنت أشاهد الأخبار في إحدى القنوات الفضائية، لفت إنتباهي خبر وفي الوقت نفسه دفعني للشك في ما إذا غيرت القناة لمشاهدة فيلم بوليسي، ولكن بعد التركيز في الشعار وجدت بأني ما زلت أتابع نفس القناة فتسمرت على الشاشة لأستوعب ما أشاهده وبأنه حقيقة وليس من مخيلة كاتب أو مخرج، حيث كانت الأحداث عبارة عن مطاردة وإطلاق للنار بين الجيش وأفراد إحدى العصابات التي تمتلك من الأسلحة والعتاد من طائرات وسيارات وصواريخ أكثر مما تملكه الحكومة مما جعلها تعلن حظر التجول وإيقاف المدارس والعمل، مخلفاً هذا الصراع العديد من الإصابات والضحايا. وبما أني لست ممن يتابع حياة المجرمين وقصصهم توقعت بأن الأمر مبالغ فيه إلى ان ذكرت المذيعة بأنه تم القبض على ابن آل تشابو وكانت تلك الأحداث ردة فعل عصابته وغضبهم من جراء إعتقال الحكومة له بعد فترة من إعتقال ابيه الذي يمكث في أعتى وأشد السجون حراسة وأمن في ولاية كولورادو بأمريكا.

دفعني الفضول للبحث عن هذه الشخصية ووجدت بأن له مسلسل في منصة نتفلكس وهنا بدأت رحلتي مع آل تشابو الذي تعاطفت معه بعد أن تعرفت على حياته وأيقنت فعلاً بأن الشخصية تصنعها الأحداث وتتأثر بالبيئة بما تحتويه من أناس وكيفية استخدامهم للأدوات.  

ينحدر آل تشابو واسمه الحقيقي خواكين غوزمان لويرا من عائلة فلاحين فقيرة في المكسيك حيث كان أبوه مربي ماشيه أما خواكين فكان يحصد البرتقال ويبيعه في صغره ليساعد أسرته، وبما أنه يعيش في منطقة للفقراء فمن الطبيعي أن تتكاثر الجريمة وبسبب وضع عائلته المادي فقد أغرته أحدى عصابات المخدرات لينضم إليها وساعدته شخصيته القوية واللامبالية لينجز المهام الموكله إليه بكل إحترافية، فقد تمكن من التدرج في مناصب العصابه بسرعة ليتولى في وقت قصير أدوار خطيرة في التهريب وأهمها التهريب للمناطق العصية والحدوية مع أمريكا من خلال الأنفاق المحكمة الشق والبناء.

 الوصول لذلك المنصب الإجرامي تطلب العديد من التضحيات والتخلي عن الأدوار الإنسانية ليتحول إلى اداة لجمع المال بغض النظر عن ماهية الأحداث وكيف. تتوالى الأيام وحساب خواكين البنكي في إزدياد وبالتالي إزدياد تابعيه ومؤيديه إلى أن أستقل وأصبح قائداً لعصابه. ومن هنا بدأت شهرته إلى أن تم إعتقاله لأول مرة في العام 1993م في غواتيمالا بأمريكا الوسطى وتم تسليمه للمكسيك لقضاء 20 عاماً في السجن، هنا كانت النقطة الفارقة للحكومة أو السجانين إما تأهيله ليعود إلى طبيعته الإنسانية وإما صناعته كمجرم محترف بسمعه عالمية في تجارة المخدرات التي تصدرها عالمياً لسنوات.

قضى آل تشابو سنوات في سجن إنفرادي تمارس عليه أسوء أنواع الضغوطات التي جردته من صفاته البشرية ليتحول إلى حيوان مفترس لا يمكن أن يعيش مع البشر كإنسان فكان إذا أراد النوم يفتح له صوت جهاز الإنذار بسيارات الشرطة بصوت عالي إلى الصباح، يقضي حاجته في مكانه ولا يمكنه الإغتسال، ويلقى له في بعض الأحيان بقايا طعام لا يمكن أكله ولا يشرب الماء ولا يسمع ولا يرى أي كائن بشري، وأصبح بعد مرور الأشهر والسنوات وكأنه حيوان يمكن أن يأذي كل من يمر في طريقه. كان يمكن للسجانين أو متخذي القرار في السجن أن يستغلوا وجوده فيه ويخرجوا أجمل ما في آل تشابو من صفات منحها الله لكل إنسان وهي الإنسانية الكامنة في داخل كلاً منا ويعاد برمجته على طبيعته التي خلق عليها حيث كان ما زال شاباً في السادسة والثلاثين من عمره ويمكن التأثير فيه وتغيير تفكيره ومسار حياته بالوسائل والأدوات والأشخاص المؤثؤين ليخرج إنساناً صالحاً قدوة للآخرين في الإعتدال بعد أن قذفته امواج الحياة والفقر الذي كان يعيشه في مستنقعات الإجرام التي بدأها وهو في مرحلة الطفولة رغبة في أن يوفر المال والحياة الرغيدة لعائلته دون أن يجد من يأخذ بيده وينتشله من ذلك المستنقع، وجاءت مرحلة الاعتقال والسجن لتأصل ذلك فيه، بل وأن كبار مسئولي الحكومة كانوا مؤيدين له ويستغلوا ثراءه فأحسسوه بقوته وبنفوذه مقابل الرشاوي التي كان يغرقهم بها، ما بين التأثير النفسي السلبي على شخصيته وإعطاءه الإحساس بالاهمية والنفوذ تكونت شخصية مدمرة مستندة على جدران هشة تتقوى بالمال لفترة قصيرة، ليهرب في العام 2001 في سيارة نقل الملابس وهو ناقماً على الحياة. أكمل مسيرته وكون إمبراطوريته الكبرى لتجارة المخدرات غير آبه بما قد يحدث وما العقاب الذي سيلحق به فهو رأى ما لا يمكن أن يتخيله عقل بشري، كان هدفه الإنتشار وجني المال، نفوذه وإصراره على المضي قدماً في رحلته تلك ساعده في الهروب للمرة الثانية عندما أعتقل في 2004م ليكمل إنجازة في عالم الدمار والمخدرات.

خواكين كان مثالاً لصحبة السوء في طفولته التي قادته إلى تلك الحياة البائسة ولم يجد حينها من يأخذ بيده من المجتمع سواء كان طليقاً أو بين أسوار السجون، فتشكلت شخصيته في بيئات أثرت عليه سلباً ونقل تأثيره على من تبعه، وبطبيعة الحال الإنسان يتشكل بالتأثير والتربية يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الفرقان (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، يا ويلتي ليتني لم اتخذ فلاناً خليلا، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا).

في العام 2016 كتب الرئيس المكسيكي بينا نييتو عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" آنذاك "أكس" حالياً،( تمت المهمة قبضنا عليه.. أريد أن أبلغ جميع المكسيكيين باعتقال خواكين غوزمان لويرا).

أتخيل لو كانت هذه الجملة " تمكنا من تحويل أكبر تاجر مخدرات في العالم إلى قدوة حسنة من خلال التأهيل في السجون ليواصل حياته في مساعدة الفقراء وعلاج المدمنين.

 

                                                                                                             خولة بنت سلطان الحوسني

 (مقال نشر في نشرة اقرأ التي تصدر من جامعة السلطان قابوس)

 

رابط المقال: https://anwaar.squ.edu.om/Portals/100/DNNGalleryPro/uploads/2024/3/21/Iqraa56.pdf