بينما كنت أبحث عن بعض الروايات في دار المنى بمعرض الكتاب في نسخته
الأخيرة بمسقط أشارت عليّ البائعة أن أشتري الرواية التي كانت مصفوفة على طاولة
العرض في الصف الأول وبأعداد كبيرة إلا أن غلاف الرواية الكئيب ذو الألوان الداكنة
والذي يحمل رسمة لإمرأة ترتدي عباءة سوداء تغطي رأسها والنقاب على وجهها ولم يظهر
منها إلا يدها اليسرى ، جعلني أعتذر عن شراءها على الرغم من أنني لا أعرف عنها أي
معلومة لكن هنا تأتي أهمية الغلاف في شد إنتياه القاريء أو تنفيره ، إلا إن إصرار
البائعة على الحديث عن الرواية وبأنها الرواية التي تقترحها لأي زائرللدار وخاصة
أنها قرأتها بنفسها فاثرت معلوماتها التاريخية أولاً وأدهشت بطريقة سرد الكاتب
للرواية وإبداع المترجمة التي ترجمتها للعربية وهذا ما جعلها تفوز بجائزة أوغست
السويدية وهي الجائزة التي يمنحها إتحاد الناشرين السويديين لأفضل كتاب ومؤلف من
مختلف الأجيال وجائزة الإندبيندنت البريطانية التي أسستها جريدة الإندبيندنت وتديرها
حالياً مؤسسة "بوكتراست" الإنجليزية الثقافية الخيرية ، فكان لها ما
أرادت وكانت المرة المرة الأولى التي أقتني فيها رواية تاريخية مترجمة من الأدب
السويدي وهي رواية (زيارة طبيب صاحب الجلالة) لبير أولوف إينكويست والتي آلفها في القرن
الماضي .
تدور أحداث الرواية في أروقة القصر الملكي الدنماركي في النصف الثاني من
القرن الثامن عشر حيث بداية عصر التنوير الذي أنطلق من فرنسا وكان بطلها الملك
كريستيان السابع المصاب بمرض عقلي أو هييء ليكون شخص غير طبيعي عندما كان طفلاً
وولياً للعهد وبالتالي يسهل السيطرة عليه وعلى قراراته عندما أصبح ملكاً أو
بالأحرى تتخذ القرارات عنه حسب مصالح البطانة التي تدور حوله في القـصر ، البطل
الآخر هو (سترونزي) الطبيب الألماني التنويري الزائر الذي أصبح طبيب دائم وأدار
زمام الأمور في الدنمارك وأقر التشريعات حسب رويته التنويرية الإصلاحية خلال تلك
الفترة ولمدة ثلاث سنوات ، أما الملكة البريطانية الطفلة والتي زوجت لملك الدنمارك
من أجل الإنجاب أصبح لها دور محوري تلك الفترة بعد أن وجدت شخصيتها الضائعة مع
الطبيب الألماني ولكن الحال مع الملكة والطبيب لم يدم طويلاً فالمتربصين كثر
والقلوب الحاقدة والأعين الموجهة على السلطة كثيرة فرمي بهم من أعلى الهرم.
الرواية لا تخلو من التعقيد خاصة في الجزء الأول منها لأنها مرتبطة بفترة
تاريخية لم يكتب عنها الكثير فاستيعاب الأحداث ليس بالسهل إلى أن تبدأ الأحداث
تنفرج تدريجياً ، حتى أضطررت في بعض الأحيان إلى البحث والقراءة عن تلك الفترة
لاستيعاب الأحداث وفهم طبيعة الشخصيات المؤثرة في الأحداث الرئيسية إضافة إلى بعض
المعلومات عن الأماكن التي ذكرت في الرواية ودارت بها أحداث مهمة وهذا الجزء لم
يكن سهلاً أيضاً وقد يكون بسبب الترجمة للعربية فترجمة الأسماء أحياناً تختلف من
مترجم لآخر فيصعب الحصول على نتيجة دقيقة في محركات البحث .
الكتابة عن هذه الرواية هنا ليس من باب التشجيع على قراءتها بكثر ما كانت
لي دوافع أخرى أستخلصتها من الرواية وهي متشابهة مع الواقع الذي نعيشة اليوم في
عالمنا العربي بينما حدث في أوربا قبل ثلاثة قرون ، وهذه الأحداث بعضها كانت ردات
فعل لطريق التغيير الذي تعيشة أوربا اليوم وللتخلص من تبعات العبودية والقهر
والجوع والفقر في عصر الظلام .
فعلى سبيل المثال قامت الدنمارك في تلك الفترة بالسماح لحرية التعبير في
الصحافة والنشر بشكل عام وهذا ما جعل التنويرين من أمثال فولتير وغيره من رواد
الحركة التنويرية يشيدون بذلك في قصائدهم كالقصيدة التي أرسلها فولتير لملك
الدنمارك بعد تشريعة لقانون حرية الصحافة والتي حملت عنوان "حول حرية
الصحافة" وبأن تلك الخطوة ستجعل الأفكار تزدهر وأن سحقت في بلد ما ، كذلك في
تلك الفترة كان العمل قائم على مشروع إنهاء عبودية الفلاحين ولكنه مشروع لم يكتمل
لكن وضعت قواعده وإتجاهاته ، إلا أن هذا القرار وغيره من القرارات الإصلاحية التي
لم يتقبلها البعض وخاصة ممكن كانت لا تتفق ومصالحهم الشخصية وخططهم المستقبلية فأعقبتها ثورة أحرقت
بالدنمارك ولكنها كانت البداية والتجربة الأولى دائماً تكون الضحية حتى تتضح
الفكرة ويتقبلها جميع الأطراف فتطبق ، هذا يعني أن أي تغيير لا يمكن أن يكون كشربة
الماء فيكون نتيجته أضحياء من البشر فإما أن يكونوا فيما بعد رموزاً للإصلاح أو
مجرد ضحية عبر من خلالها للوصول للهدف.
إضافة إلى ذلك فأن الرواية سلطت الضوء على ما يوجد في داخل الكتلة البشرية (الغريزة
البشرية) ويترجمه العراك البشري الذي تثيره الدوافع الشخصية المحبة للسلطة
والساعية لها وتأثيرها على مصير شعوب والتي قد يفقد الشعوب في كثير من الأحيان
حقوقها وبالتالي عجزها عن تأدية واجباتها ، وأن هناك بعض البشر تتلبسها أرواح
حيوانية لا تعرف للإنسانية معنى فما تفعله بغيرها من البشر يكون من باب الدفاع عن
الحقوق وحماية الوطن وهذا ما حدث مع الطبيب الألماني "سترونزي" ، وملكة
الدنمارك البريطانية التي غدر بهم في ليلة وأصبحوا من مشرعين للإصلاحات إلى
معتقلين في طريقهم للموت.
هذه الرواية تناولت أخطر فترة في تاريخ الدنمارك وأكثرها غموضاً إلى جانب
التحليل الشخصي لشخصيات مهمة لعبت دوراً في تاريخ أوربا حينها فهي جمعت بين السرد
التاريخي والتحليل النفسي الذي يلعب درواً مهماً في سير الأحداث وصناعة البيئة المحيطة.
![]() |
ملحق أشرعة - جريدة الوطن |
أجدتِ التحليل، وأنا أوافقك وكنت سأختار لوحة أخرى للغلاف. المترجمة، سوسن كردوش قسيس.
ردحذف